أسرار مذهلة ترعب العالم عن بشاعة الاختبارات النووية
الحرارة في قلب الانفجار النووي تصل إلى مئات الملايين من الدرجات وتتجاوز المعدل في مركز الشمس
إيمان البشير
خلال الأجزاء القليلة الأولى من الثانية ترتفع الحرارة في قلب الانفجار النووي إلى مئات الملايين من الدرجات متجاوزة ما يعادل حرارة مركز الشمس، ويرتفع الضغط إلى 100 وحدة ضغط جوي، دافعاً الغازات المتفجرة نحو الخارج بسرعة خمسة أميال بالساعة، وبشكل غير منظور تلتوي المادة من شدة الانفجار وتتوهج ملايين الاطنان من المادة المقذوفة نحو الأعلى تحت تأثير الأشعة السينية وأشعة غاما والنيوترونات وتعود النظائر المشعة غير المستقرة إلى مستوى الأرض على شكل "غبار ذري" يخترق الخلايا الحية ويدمرها. في تمام الساعة الخامسة والنصف من صباح السادس عشر من يوليو عام 1945 في حقل ألاماغوردو لتجارب التفجير بولاية نيو مكسيكو الأميركية، وقف روبرت اوبنهايمر، ابو القنبلة الذرية يراقب الكرة النارية المتضخمة في اختبار "ترينتي"، اول اختبار نووي من نوعه في العالم، وقال مقتطفاً من كلام شخصية اسطورة هندية تعرف بـ "المدمر" سجلت اقوالها في الكتب القديمة "لقد اصبحت انا الموت مدمر العوالم جميعها".
التضحية ببراء الجنس البشري
في ألاماغوردو تمت التضحية بما تبقى من براءة للجنس البشري على مذبح فيزياء القرن العشرين لكن العالم لم يسمع بالخبر المهول إلا بعد ذلك بثلاثة أسابيع، فلقد تكتمت الحكومة الأميركية على الانفجار العظيم الذي حدث في الصحراء، وقالت إنه كان مستودع ذخائر لكن في السادس من اغسطس في ذلك العام ألقيت القنبلة "ليتل بوي" على هيروشيما وبعدها بثلاثة أيام ألقيت قنبلة "فات مان" على ناغازاكي مدمرة المدينة عن بكرة ابيها عندها علم الجميع بأمر القنبلة النووية بالطبع ما عدا الــ 300 ألف ياباني الذين قتلوا في التفجيرين. ومن حسن الحظ أن قنبلة "فات مان" كانت آخر سلاح نووي يستخدم في ثورة غضب لكن المؤسف أن الجنون لم ينته عند ذلك الحد فبحلول عام 1988 كانت الولايات المتحدة تمتلك أكثر من 23 ألف سلاح نووي، والاتحاد السوفييتي اكثر من 37 ألف سلاح وفي هذه الاثناء أيضاً اصبحت كل من بريطانيا وفرنسا والصين قوى نووية هي الأخرى، وانضمت إليها الهند وباكستان واسرائيل في حين توشك الآن كل من إيران وكوريا الشمالية على اللحاق بالركب.
كان لابد من اجراء الاختبارات والتجارب لانجاح هذه البرامج الرهيبة، ولذلك فقد تم تفجير حوالي 2000 قنبلة نووية وهيدروجينية ما بين 1945 و 1992 وكانت 400 من هذه الانفجارات "جوية" أي فوق الأرض، إلى أن ابرمت معاهدة حظر الاختبارات المحدودة في عام 1963، حيث اصبحت تجرى الاختبارات بعد ذلك تحت الأرض وبذلك اصبح منظر السحب المتفلطحة ذكرى من الماضي أو رؤيا مستقبلية.
توثيق مختزل
ولقد تم توثيق وتصوير الاختبارات النووية الأميركية التي اجريت في نيفادا وفي العديد من الجزر الباسيفيكية، مع انه كان توثيقاً مختزلاً وموجزاً والآن قام المصور الأميركي مايكل لايت بجمع مئة صورة عالية الجودة من تلك الصور في كتاب جديد بعنوان "مئة شمس 1945 - 1962 ".
ومن العجيب أن لايت مولود في 5 أغسطس 1963 أي في نفس اليوم الذي وقعت فيه اتفاقية حظر الاختبارات المحدودة ويقول لايت "كان آخر كتاب لي عن القمر كنت اود الذهاب إلى القمر لالتقاط الصور لكني لم استطع ولذلك ابتدعت رحلة افتراضية وربما كنت اود أن اشاهد اختباراً نووياً جوياً لاعداد هذا الكتاب لكني لم استطع ولذلك ابتدعت رحلة افتراضية أيضا".
إنه كتاب جميل على الرغم من شناعة موضوعه، ويظهر فيه انفجار قنبلة بيكر بقوة 21 ألف طن على جزيرة بكيني المرجانية في المحيط الهادي عام 1946 على شكل كرة بيضاء متعاظمة تتوجها حلقة مشوشة من الانقاض المرتفعة في الهواء أما انفجار "شاستا" بقوة 17 ألف طن في نيفادا عام 1957 فيظهر على هيئة عمود دخان يتوسع متباعداً عن مركزه محاطاً بهالة شبحية ويبدو تفجير فوكس 11 ألف طن، نيفادا 1953 كشجرة نار خرافية متوهجة بالأحمر والذهبي ثم يأتي "برافو" 15مليون طن.
أكبر انفجار أمريكي
جزيرة بام ايلند والذي كان اكبر اختبار نووي أميركي ويظهر في الكتاب كسفنية فضاء غازية كروية تكللها حلقات كثيفة هائلة ترتفع باتجاه سماء قرنفلية مفعمة بالحيوية ويقول لايت " هذه صور لمشاهد طبيعية وهي تجسيد بصري لفكرة القوة لقد كانت الطبيعة دائماً منبع صور الجبروت والضخامة للبشر وهنا نشاهد الإنسان يصنع جبروته بنفسه" ويختم لايت كتابه قائلاً "رجاؤنا أن تكون هذه آخر صور لآخر انفجارات نووية على الأرض" وحقيقة هذه الانفجارات انها كانت مدمرة جداً برغم كونها مجرد اختبارات فلقد محيت بعض الجزر الباسيفيكية تماماً عن الخارطة كما خلف أحد تفجيرات القنابل الهيدروجينية فوهة في الأرض بعرض ميل وعمق 200 قدم، إن حجم تدمير هذه الانفجارات يفوق حدود الخيال". وفوق ذلك فإن الخسائر في الأرواح البشرية هائلة رغم أننا لا نعرف الكثير عنها بسبب عدم وجود ارقام، كما أن الدول الشيوعية لم تعبأ بأرواح الافراد.
مستويات كارثية من الاشعاع
وبقدر كبير من اللامسؤولية كان الجنود الأميركيون يرسلون إلى موقع التفجير مباشرة بعد حدوث الانفجار الامر الذي عرضهم لمستويات كارثية من الاشعاع . إحدى الصور التي تقشعر لها الابدان في كتاب لايت هي صورة تفجير "سيمون" في نيفادا عام 1953 والتي تظهر جنوداً جاثمين في خندق فيما تنهال عليهم دقائق متوهجة.
ومنذ البداية كانت تلك الاختبارات تنطوي على مخاطر رهيبة متوقعة، ففي وقت "اختبار ترينتي"، اول اختبار نووي على الاطلاق، كانت مخاوف حقيقية من احتمال اشتعال الغلاف الجوي وتدمير الحياة على الأرض لكن أميركا لم تأبه لهذه المخاطر ومضت قدماً كما تم أيضاً تفجير القنابل الهيدروجينية دون أن تكون لدى العلماء أي فكرة واضحة حول حجم الانفجار الناجم وعلى سبيل المثال فقد كانت القوة التفجيرية لقنبلة "برافوا" مليون طن أكبر بمرتين ونصف المرة مما توقع العلماء ونتيجة لذلك لم يكن بالإمكان في ذلك الحين توقع ألسنة الغبار الذري الذي هبط إلى الأرض في مناطق مأهولة بالسكان في نيفادا أو الباسيفيكي مرات عدة ويقول الخبراء إننا لن نتمكن أبداً من تقدير حجم الخسائر من امراض السرطان والتشوهات الخلقية الناجمة عن التلوث الاشعاعي.
أدوات لتدمير العالم
ومن خلال الصور والتوصيفات العلمية الشيقة يسلط كتاب لايت الضوء أولاً على حقيقة أن الاسلحة النووية لا يمكن أن تكون شأناً بشرياً مرشحاً للاستمرار برغم كل ما أحيط به من شجب ومصاعب ويكفي أن نعرف "مايك" أول قنبلة هيدرجينية أنتجت طاقة تفجيرية تعادل 10.5 ملايين طن، وتفوق طاقة كل القذائف والقنابل التي ألقيت في الحربين العالميتين الأولى والثانية مجتمعة ويمكن رصد تأثير الغبار الذري في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي أكده انتقال ألسنة الغبار المباشرة الناجمة عن الاختبارات عبر مسافات لم يكن أحد يتوقعها .
هذه ليست مجرد قنابل ضخمة إنها أدوات لتدمير العالم مثل الإله الهندوسي شيفا ولقد أجريت الاختبارات على أساس الفكرة الفنتازية التي اعتنقها الناس والحكومة والقوات المسلحة في أميركا والتي تفيد بإمكانية قيام حرب نووية وإمكانية الظفر بها وكان سبب إرسال الجنود إلى موقع الاختبار بعد التفجير هو أن الولايات المتحدة كانت تتوقع بالفعل استخدامها لهذه الأسلحة الوحشية في ساحة القتال في حال نشوب حرب مع السوفييت ولقد نشأ الآن جيلان منذ التوقف عن إجراء الاختبارات الجوية جيلان لم يشاهدا هول السحب المتفلطحة لذلك ربما يخيل لنا وأحياناً أن تلك الانفجارات لم تكن سوى كابوس مزعج.
المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 64